قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا * وسبحوه بكرة وأصيلا * هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما}.
منذ مدة ونحن نسمع ونقرأ، بين آونة وأخرى، أن فلانا انتحر، وفلانة انتحرت؛ أي عمد إلى قتل نفسه، وإزهاق روحه، ووضع حد لسني عمره، زهدا فيما تبقى منه، إن كان قد تبقى منه شيء.
وعادة الإنسان أنه يظلم، ويطغى، ويفسد، ويهلك الحرث والنسل، ويفتك، ويقتل، ويشعل الحرب والدمار، حتى يعيش فلا يموت، لينسأ في عمر، ويمد في أجله.. والآن هو الذي يختصر كل شيء، ويتجاوز كل شيء، فيقتل نفسه بيده، عن سابق إصرار وعمد، وعن قناعة كاملة ؟!!.
ما الذي يحدث بيننا ؟!!.. شباب وفتيات، في حال اكتمال العقل، والأمل بين أيديهم، لا يشكون عاهة، ولا أسرا، ولا ذلا، لماذا يقتلون أنفسهم ؟.
يمكث المرء يقلب في الأسباب:
أهي حالات نفسية ؟.. فهل ذلك مسوغ ؟، فلم لم ينتحر نزلاء المستشفيات النفسية ؟.
أهي أوضاع اقتصادية ؟.. فهؤلاء الفقراء يملؤون العالم، كان عليهم أن ينتحروا هم أيضا.
أهي أوضاع أسرية ؟.. أفلم يجد هؤلاء طريقة لحل هذه الأوضاع إلا الفرار إلى الموت.
أم هي حالات شيطانية، استثمرت تلك الحالات السيئة المحبطة، فوسوست بالتخلص منها والخروج بلا عودة، فزينت الموت، كما زينته لعبدة الشيطان، وهم ثلة من المترفين، الذين ملوا الحياة ؟.
في السابق كنا نسمع ذلك يحدث في الغرب، وأخص بالذكر الدول الغنية، كالدول الإسكندنافية، التي توفر كل شيء لشعوبها، من مال، وجنس، وخمر، وملاهي، وملذات. فيتساءل المتعلمون: كيف ينتحرون وبين أيديهم كل أدوات النعيم ؟.
فيجيبهم العالمون: ذلك لأنهم عمروا دنياهم، وخربوا آخرتهم.. ولأنهم أقبلوا على لذات البدن، وتركوا غذاء الروح.. فسجنت أرواحهم في أبدان آثمة، مليئة بالخطايا، فلم يعد بوسعها أن تتزكى، فتملكهم الشيطان، فساقهم في طريقه، وصار آمرا لهم وناهيا، فكان من أمره إليهم أن يقتلوا أنفسهم.
هكذا كانوا يجيبون، يوم لم يكن عندنا ما عند الغرب من البلايا، لكن أخبارهم كانت تأتينا، فنسمعها ونقرؤها، أما اليوم فإن بعض تلك البلايا تسربت إلينا.. فهل كان ذلك هو السبب ؟.
عندنا جواب سهل وواضح لهذه المشكلة، هو قوله تعالى:
- {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا}.
التارك لذكر الله تعالى، المعرض عنه، في معيشة ضنك؛ أي شقاء، وتعب، وألم نفسي، وعذاب روحي، كما في قوله تعالى:
- {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء}.
- {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق}.
فهذا المعرض عن ذكر الله تعالى له من العذابات النفسية، كما أخبر الله تعالى، ومن أصدق منه قيلا، ومن أصدق منه حديثا: الضنك، والضيق؛ كضيق المتنفس إذا قل عنده الأوكسجين، والخوف؛ كخوف الساقط من السماء، والجوارح الكواسر من الطير تتخطفه، تفترسه، فإن نجا منها هوت به الريح في واد سحيق.. ولعل نائما رأى نفسه كذلك، فكيف كان شعوره خوفا ورعبا، فكذلك هو المعرض عن الذكر .
وهذا وإن كان في المعرض إعراضا تاما؛ هو الكافر والمشرك، فإن المسلم حينما يعرض عن ذكر الله تعالى، وذلك بالإهمال والنسيان والغفلة، ليس بالكفر والجحود؛ فإنه سيناله بعض ما ينال الكافر من تلك العذابات، فكما أن الإيمان شعب، فالكفر شعب، وبعض شعبه قد يتلبس بها المسلم، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعض رقاب بعض).
والمعنى أن توافقوا وتشابهوا الكفار في بعض أخلاقهم، كالضرب والقتل، فمن فعل كذلك، فهو فيه شعبة من الكفر، وإن لم يبلغ حد الكفر المخرج من الملة، وكذا التارك لذكر الله إهمالا وغفلة، هو فيه شعبة من شعب الكفر، لذا فقد يناله شيء من الضنك، والضيق، والخوف الذي يصيب الكافر.
إذن كونك مسلم، فذلك لا يعني السلامة الكاملة مما يصيب الكافر جزاء آثامه، بل كلما فعلت شيئا هو من أخلاقه وطريقته، أصابك ما يصيبه جزاء وفاقا. وإن هؤلاء الذين واللواتي ينتحرون قد أصابهم شيء مما أصاب الكافرين من الغفلة عن ذكر الله تعالى، وتمادوا في ذلك حتى تملكهم الشيطان..
وقد بدأت كلامي بآية معظمة: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا * وسبحوه بكرة وأصيلا}. فهذه وصية الله للمؤمنين: ذكر الله تعالى، وصفة هذا الذكر أنه كثير، ليس قليلا، ومن ذلك تسبيحه بكرة وأصيلا، فلا يلزم ذكره في البكرة والأصيل إلا من ذكره كثيرا. وهناك نصوص في المعنى كثيرة، كقوله تعالى:
- {واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون}.
- {والذاكرين الله كثيرا والذاكرت أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما}.
- {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين}
- {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم..}.
- {ولذكر الله أكبر}.
- {فاذكروني أذكركم}.
وقال صلى الله عليه وسلم:
- (سبق المفردون؛ الذاكرون الله كثيرا والذاكرات) رواه مسلم.
- قال رجل: يا رسول الله!، إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأخبرني بشيء أتشبث به. قال: ( لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله) رواه الترمذي.
فالعامل بهذه النصوص، الذاكر لله كثيرا والذكرات، لن ينالهم بأذن الله ضنك، ولا ضيق، ولا خوف، وإني قمن لكم أنه لن يؤذي نفسه بشيء، دع عنك أن يقال: إن فلانا أو فلانة انتحرت.
* * *
إن الذي لا يذكر ربه هو ميت، والبيت الذي لا يذكر فيه الله تعالى هو بيت ميت، قال رسول الله:
- (مثل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر ربه، مثل الحي والميت) متفق عليه.
- ٍ(مثل البيت الذي يذكر الله فيه، والبيت الذي لا يذكر الله فيه، مثل الحي والميت) مسلم.
والميت يُحرك ولا يتحرك، يُملك ولا يملِك، ليس بيده أن يدفع عن نفسه بشيء، ولا يستطيع صون نفسه، وكذا الذي لا يذكر ربه، هو تحت أمر وتصرف غيره، ومن هذا ؟، هو الشيطان، هو الذي يتصرف فيه، يسوقه إلى ما يريد، لا يلقى دفعا ولا معارضة، بل التسليم المطلق.
ولأنه عدو الإنسان، وقد حلف بعزة الله: أن يغويه، وأن يزين له كل منكر وسوء وفحشاء. فلن يتردد في أن يفعل به ما يقدر عليه، إن قدر خرج به من الإسلام إلى الكفر، وإن عجز عن هذا فعل به ما دون ذلك، مما فيه عذابه ودخوله النار، فمن ذلك: أن يقتل نفسه. روى البخاري بسنده عن رسول الله عليه الصلاة السلام قال:
- (من تردى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم، يتردى فيها، خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تحسى سما، فقتل نفسه، فسمه في يده، يتحاساه في نار جهنم، خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده، يجأ بها في بطنه، في نار جهنم، خالدا مخلدا فيها أبدا).
إن الشيطان يتسلط على الإنسان بإهماله ذكر الله تعالى، فإذا أهمل الذكر كان حينئذ عرضة للعين الحاسدة، والنفوس الشريرة، والسحر، فإذا تمكنت منه هذه الأدواء، تسلط الشيطان من خلالها، فصار في أسره، فبدأ بعذابه بالضنك، والضيق، والخوف:
فمنهم يكون فيه بقية قوة، يضارع بها الشيطان، فيصابره بالعودة إلى الذكر، واستعماله في دفع ما يجد من الأذى، فيكون في تعب ومشقة، كالذي لقي عدوا، فمرة يضرب، ومرة يُضرب، والقتال سجال.
ومنهم من يضعف جدا، حتى لا يجد القوة للدفع والقتال، وهذا الذي يتمكن منه الشيطان، فيؤذيه غاية الأذى، فإن منّ الله عليه بمن يعينه، أو فتح باب قوة، تمده بالإيمان واليقين، والعودة إلى الذكر، وإلا فإنك لا تدري إلى أين يسوقه هذا الشيطان الرجيم ؟.
والسالم من كل هذا الأذى هو المؤمن؛ الذي لا يفتر عن ذكر الله تعالى، فهو الذي يتتبع الشياطين ليقتلهم، ويعذبهم، فلا يطمعون منه بأذى، بل يرجون الخلاص والفكاك من نار إيمانه عليهم، فإن معه سلاحا ثقيلا على الشياطين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
- (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن؛ سبحان الله وبحمده، وسبحان الله العظيم). متفق عليه
- ( من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. في مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا رجل عمل أكثر منه) متفق عليه.
- (ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى. قال: ذكر الله تعالى) رواه الترمذي.
إن ذكر الله تعالى سلاح قوي، يكفر السيئات، ويرفع الدرجات، ليس هذا فحسب، بل يقي الإنسان ويصونه من أذى الشيطان على بدنه، وروحه، وعقله؛ ولذا أمرنا بتحصين أنفسنا بالذكر عند النوم، وفي الصباح والمساء، وأن نحصن الأطفال الصغار بالأذكار الواردة. فهذا هو علاج الانتحار.